ما بين بين... بقلم: عيسى قراقع
بقلم عيسى قراقع-"ما بين بين"، عنوان معرض رسم للوحات فنية حول الأسرى الفلسطينيين ومعاناتهم في سجون الاحتلال، نظمه مركز إبداع في مخيم الدهيشة بإشراف مركز العمل الشبابي للتنمية المجتمعية وبالتعاون مع مؤسسة ستارت للفنون، وقد شارك في المعرض عشرة من الفنانين الفلسطينيين الذين عبروا خلال لوحاتهم عن حياة الأسرى في فترات متعاقبة.
هي لوحات رسمتها أصابع شقية، مرتعشة، عبرت عن شعب مسجون بين جدارين وشباكين، غارق في الخيال والاستعارات، يتوارى خلف ظل الواقع بعيدا وقريبا، يظهر كشبح وراء هويته المهشمة.
ما بين الأمل واليأس، لون الموت أسود، اللوحة لم تصرخ ، لأنه لا أحد هناك ليسمع أو ليشهد، بعد أن طرد لون الضحايا من المشهد والكلام.
ما بين المنفى والعودة، لا نبحث إلا عن الحاضر، بعد أن جرف الإسرائيليون التاريخ وطهروا المكان والذاكرة، وفي الحاضر نقوم مع قيامة الانتفاضات جيلا يكرم حياتنا السابقة وحياتنا القادمة.
ما بين شهقة ونطفة، أرى أطفالا في اللوحات قادمين من شبق السجون، هنا الولد والبيت والعائلة، وهناك خلفنا مؤبد السنوات القاحلة.
ما بين حلم وحلم، تدربنا على المفاجأة، جنود يعتقلون الأطفال بعد منتصف الليل، دولة إسرائيل تلاحق الصغار المتمردين الصاعدين إلى أشجارهم العالية، يكتب أحد الجنود: أصبحنا مجانين ومرضى في دولتنا الخائفة.
ما بين الحي والميت، أرى شهيدا يعود بعد 14 سنة في السجن قتيلا، وكانت أم الشهيد ياسر حمدونة تقدم العزاء لنا قائلة: حقق ياسر نبوءته التي سكنته طوال العمر، عاد إلى جنين دليلا على صحة الولادة.
ما بين الدولة والثورة، انشغلت أكثر في دراسة أحوال الغيب والغد، دولة لم تولد، وثورة تغير شكلها وأبناؤها، وانا بين بين، أتعثر بالحواجز والمستوطنات وبالرصاص، أعيش بين التباس مرحلتين.
ما بين بين، الحرب وصلت البيت واللغة وكتاب المدرسة ، والحرب على الماء و الصخرة والينبوع والشجرة، لا فرق بين السلام والحرب، اللوحة مشتعلة ، وفلسطين معلقة بقضايا لم تشبع هويتها الجائعة.
ما بين الغموض والوضوح، ألوان تحدد مصائر القتلى، قناصون هناك، تنزف اللوحة، زنزانة يحشر فيها شعب من الأسرى والفقراء والمشردين، دلالة وجودية، آليات دفاع عن حياة أكثر وضوحا وانبهارا، يتحول السجان إلى مسجون في التراجيديا الفلسطينية.
ما بين الجمال والحرية، بشر يقاومون محو طبيعتهم الإنسانية، يعشقون ويغنون، يحصدون الجوائز العالمية، يلعبون كرة القدم في كل الساحات، لا يأبهون بقصف القنابل أو تجفيف أحلامهم على هذا الحاجز العسكري أو ذاك.
ما بين بين، قلت لها أحبك على فرحي الصغير، وأحبك على ضفاف الأقحوان المشع في اللوحة، هذا لونك، وهذا لوني، هذا كأسك وهذا كأسي، نتوحد في الخروج من العتمة، نحمل خبزنا وعدة الضوء.
ما بين اليوم والأمس، ازداد عدد المستوطنات والمستوطنين والمعتقلين والشهداء والأسماء العبرية، والأرض تنسحب من تحت أقدامي، ولا أدري أين سيقع بيتي بين حل الدولتين.
ما بين صلاة وصلاة، صوت جرس كنيسة وآذان جامع، الأنبياء خائفون، يقتفون آثارهم ونبوءاتهم ولا يجدون سوى مذبحة، طيور تقاد بالحديد وبالأسلحة.
ما بين مؤبد ومؤبد، يجلس كريم يونس في صحراء سجن النقب، لم يجد غير دمه وغبارا كثيفا ليكتب الأغنية، رفعته رياح الحرية إلى فلك في السماء، جرح يتنقل على جسد الفضاء.