القرى التي لم تضع العباءة عن رأسها
جميل ضبابات
يعرض موقع "إيباي" الشهير للمزادات والذي مقره سان خوسيه في كاليفورنيا، أزياء تقليدية فلسطينية يصل ثمن القطعة منها إلى نحو 600 دولار أميركي، لكن ندى يوسف وهي سيدة من قرى شرق نابلس تقول إن ثمن عباءتها يعادل وزن قماشها ذهبا.
قصرة قرية تأخذ الألباب في الربيع.. وفي أوقات أخرى كانت ساحة لمواجهات دموية بين الشبان والمستوطنين الذين يهاجمونها في أوقات مفاجئة، لكنها أيضا قرية تمتاز بصفة أخرى، فهي تجاهد للاحتفاظ بالعباءات السوداء أو الزرقاء النيلية.
على موقع "إيباي" استحال رؤية تلك العباءة، وعلى أقل تقدير أيضا، لم تشاهد هذه العباءة في عروض الأزياء المحدودة في الضفة الغربية، التي اكتفت بعرض لأثواب مطرزة تمثل خارطة الزي الفلسطيني التقليدي في فلسطين الطبيعية.
واقفة في ساحة تشرف على القرية الجبلية من الناحية الشرقية، تضع ندى وهي واحدة من سيدات لا يمكن إحصاؤهن، هذا الرداء الذي يغطي الرأس من أعلى الجسم الى القدمين عند استقبال الزوار.
وفي قصرة، أمكن إحصاء سيدات أخريات يقطعن شوارع فرعية يتدثرن بالعباءة، وهي رداء بسيطة بأكمام قصيرة وانسياب كامل، تطوى حسب وضع الحركة او الجلوس.
وعرفت قرى شرق نابلس تاريخيا، بتميّزها بهذه العباءات.
وقد تقتني النساء أكثر من عباءة سوداء تستخدمها في مناسبات محددة، وهي قطعة قماش إضافية مفصلة بشكل يتناسب مع رداء أساسي ويغطيه بشكل كامل.
وقالت ندى إنها ارتدت العباءة عندما كان عمرها 18 عاما. في ذلك الوقت قبل نصف قرن تقريبا، كانت معظم الفتيات يرتدين هذا النمط من الغطاء الطويل المفتوح من الأمام.
لكن كل سيدة في قصرة وفي عدد قليل آخر من القرى، ما زالت تحافظ على هذا النمط من اللباس التقليدي الفلسطيني، وحصلت على عباءة خاصة في حياتها.
قالت ندى، "عندما تزوجت حصلت على عباءة جوخ". وأكدت نساء أخريات أنهم حصلن على هذه العباءة، وهي أهم قطعة في كساء العروس.
وغالبا ما تكون العباءة الجوخ ذات لون مختلف، يتدرج من ألوان الأزرق. وأظهرت سيدة في قرية قريوت المجاورة، عباءة الجوخ التي وصلتها قبل أكثر من نصف قرن، قبل زواجها بأيام ضمن كسائها.
كانت صبحة عبد الله كساب، قد انتقلت من مسقط رأسها في ترمعسيا إلى قريوت للزواج. في قرية عائلتها لم ترتد تلك العباءة، لكنها منذ أن وصلت إلى قرية زوجها ارتدتها حتى اليوم. عندما انفرجت شقتا باب سور يحيط بدار كساب، خرجت السيدة تتجلل بالعباءة الجوخ.
يعظم هذا الجيل من السيدات هذا النمط من اللباس الذي أخد يتلاشى بشكل ملحوظ من هذه المنطقة.
في قريوت، تقول صبحة، إن عددا محدودا ما زال يرتدي العباءة. "عدد أصابع اليد الواحدة".
كان الزي الفلسطيني التقليدي الذي يقتصر ارتداؤه اليوم على عدد قليل من الجيل الذي عاصر النكبة الفلسطينية الكبرى، أو في معارض متخصصة، جزءا من الهوية الوطنية التي تمثلها اليوم، بشكل واضح الكوفية.
في قصرة وقريوت وقرى قليلة، يمكن مشاهدة مرتديات العباءة في المناسبات الكبرى مثل الأفراح وأثناء وجودهن في سرادق العزاء.
في طريق داخلي، ظهرت سيدتان في قصرة، واحدة تتدثر بالعباءة، لكن الأخرى ترتدي لباسا ينتمي لعصر الأثواب الجديدة.
في بيت ندى الآن عباءتان، واحدة كانت ترتديها عندما استقبلت زوارها، والأخرى معلقة في الداخل. والسيدة تعدد أسماء جاراتها اللواتي يشاركنها هذا النمط من الظهور.
في مناسبات محددة، يمكن أن تخرج خمس أو ست سيدات من منازلهن بتلك العباءة، ويذهبن إلى عزاء أو فرح.
"أحيانا نغطي نصف وجهنا. وأحيانا نمشي دون غطاء،" قالت. ويطول الرداء الأسود غالبا حتى الأقدام، ولكنه أيضا يغطي الرأس.
وغالبا ما يتم شراء هذه العباءات من أسواق نادرة محددة. وفي بعض الأحيان تخاط محليا داخل القرى مثل قصرة.
كانت آخر عباءة اشترتها ندى قبل ثماني سنوات، هي ذاتها العباءة التي وضعتها فوق رأسها هذا اليوم.
إذا كانت صبحة ما زالت ترتدي عباءة الجوخ حتى اليوم، فندى عزفت عن ذلك منذ زمن. وقالت وهي تتحسس عباءتها لتؤكد على خفة وزن قماشها "هذه اخف. الجوخ ثقيلة".
عازمات على الاستمرار في ارتداء هذه العباءة، قالت السيدتان إنهما لن تتخليا عن هذا النمط من اللباس. لكن لا أحد يؤكد أن نساء جديدات انضممن إلى جيل العباءات.
كانت تلك العباءات من الماضي، لكنها ما زالت. خلاد وهو حفيد صبحة، قال إنه يجول في القرى المجاورة كثيرا، ولم يعد يرى في إحدى القرى القريبة سوى سيدتين تضعان تلك العباءات.
في الماضي، وتحديدا منتصف القرن التاسع عشر، استرعت انتباه الروائي والصحفي الفرنسي فرانسوا ميشو، التي وصفها في كتابه الشهير "رسائل من الشرق" بعد زيارته إلى نابلس، وشاهد النساء يرتدين تلك العباءات ككساء يلف الجسد من الرأس إلى أخمص القدمين.
تلك النظرة العميقة للعباءة في قرى العباءات، ليست بالعمق ذاته هنا في أسواق المدينة التاريخية. بالكاد أمكن العثور على ما قد يكون آخر بائع للعباءات.
في قلب البلدة القديمة من نابلس، حيث تبقى عدد محدود من باعة الأقمشة، يمكن لرجال يتداولون السؤال عن مراكز بيع العباءات أن ينهوا النقاش بسرعة. يقول بلال ضمرة، وهو من بلدة بلاطة التي عرفت نساؤها في الماضي القريب بارتداء هذه العباءات "انتهت العباءات".
عرف صالح صدقة السامري وأبناء عمومته ببيع القماش. لذلك لا يندر مشاهدة من يبحثون عن قماش قنابيز لفرق الدبكة.
لكن السامري الذي ورد قبل 4 سنوات آخر عباءة سوداء لنساء المشاريق، لم يبعها حتى اليوم. عندما أخرجها من حقيبة بلاستيكية، أعاد طيها. ربما صدفة أخرى للسؤال عنها تدفعه لإخراجها.
ــ