نوار اللوز في لفتا.. جمال الخراب
يامن نوباني
رغم مرور 72 عاما على خراب لفتا (5 كيلومترات شمال غرب القدس)، وتدمير معظم منازلها واقتلاع 2960 فلسطينيا منها، ما زال اللوز هناك "يُنور"، لوز فلسطيني عربي لم يستطع الاحتلال هدمه ومحوه، من بين الأزقة وشقوق حجارة البيوت المهجورة، لأنه ابن الإنسان الأصلي، وابن الأرض التي يستحيل تغيير معالمها مهما مرت السنوات، ونما فيها الاستيطان.
انبعاث اللوز مجددا في لفتا، أبهر الأصدقاء والمتابعين لصفحة المصور المقدسي فادي عميرة، الذي التقط لنوار اللوز الأبيض والمائل للزهر ودرجاته المختلفة، مشاهد ساحرة، ما دفع الآلاف إلى مشاركتها، ونشر عبارات وطنية واستذكارية وأبيات شعر في الوطن المهجر، وبفلسطين المسلوبة، أرض الخير والجمال.
مستشهدين بكتابات لأدباء وشعراء فلسطينيين كبار، أمثال إميل حبيبي "وأخيراً نور اللوز"، وحسين البرغوثي في "سأكون بين اللوز"، ومحمود درويش "كزهر اللوز أو أبعد".
ومن جملة ما نشر على مشهد نوار اللوز في لفتا:
لا وَطَنٌ ولا منفى هِيَ الكلماتُ، بل وَلَعُ البياض بوصف زهر اللوز
لا ثَلْجٌ ولا قُطْنٌ فما هُوَ في تعاليهِ على الأشياء والأسماء
لو نجح المؤلِّفُ في كتابة مقطعٍ في وصف زهر اللوز، لانحسر الضبابُ عن التلال، وقال شَعْبٌ كاملٌ:
هذا هُوَ
هذا كلامُ نشيدنا الوطنّي".
الباحث في العلوم الاجتماعية، خالد عودة الله، كتب على صفحته على "الفيسبوك": أمام زهر اللوز في القرى المهجرة، لطالما وقفت حائرا معذبا، بهجة الباقات البيضاء والوردية بين السلاسل والجدران العتيقة، وفي الوقت ذاته حزن تمليه الخبرة القرويّة؛ فمعظم أشجار اللوز التي يجدها المرء في بساتين القرى المهجرة هي من الصنف المرّ، وهذه الأشجار هي بقايا الأشجار المثمرة المتعددة (البرقوق والمشمس…) التي كانت تملأ بساتين وحواكير قرانا، فقد اعتاد القرويون على زراعة اللوز المرّ من ثم تطعيمه (تركيبه) بالأشجار المثمرة ذلك أنّ اللوز المر مقاوم لحشرة حفّار الساق، العدو الأول للوزيات.
تتحول شتلة اللوز المر من التركيبة وفوق إلى شجرة مشمش مثلا وتبقى جذورها في الأرض على أصلها مرّة، فإذا ما ماتت المشمشة، الشجر الحلو عمره قصير، يبقى الجذر المرّ تحت الأرض حيّا مُعمرا وينبت أشجار لوز مرّ، ولأن أهل البساتين رحلوا عنها، فلم يعد هناك مَن يحوّل المرار القوي إلى الحلو الهش، فتكاثر المرار ليس فقط في البساتين إنما يمكنك أن تشاهد شجرة لوز نامية في جدار دار أو على على سطح عَقد، ذلك أن الطيور تطير بحبات اللوز المرّة إلى البيوت لتأكل لبها وتترك بذرتها المرّة.
وختم عودة الله: المشهد البهيج النابض بالحياة هو في حقيقته مشهد لجمال الخراب…
لفتا عبر الزمن
في أواسط الثلاثينيات أصبحت لفتا مصدرا رئيسيا لأنشطة البناء (مقالع الحجار) في مدينة القدس، واندمجت لفتا الفوقا في روميما الضاحية العربية اليهودية الجديدة وجعل اتساع أراضيها منها مركز جذب أساسي للاستثمار في العقارات وأوجد تفاوتاً في الثروات ضمن القرية إذ كانت حدود لفتا تنتهي عند صور باهر وبيت صفافا في الجنوب والطور في الشرق وبيت حنينا وشعفاط في الجهة الشمالية الشرقية وعين كارم والمالحة في الجهة الجنوبية.
أخذت العمارة في القرية تعكس طراز البناء وتعقيداته في ضواحي القدس، وبدأت البيوت الفخمة المكونة من طبقتين مع ساحات داخلية وحدائق وبساتين ممتدة، وأدى إنشاء طريق للحافلات وتوسيع شبكة النقل إلى زيادة قدرة القرية على الحركة في اتجاه العالم الخارجي وتلقى عدد كثير من شبان القرية العلوم في كليات القدس وجامعات بيروت ودمشق والقاهرة وغيرها، وتأسست في سنة 1935 شركة باصات لفتا دير ياسين وامتلكت ثلاث حافلات وعدداً من سيارات الأجرة الخاصة وخلافاً للوضع في القرى الأبعد كان يوجد في لفتا مقهيان ومنجرتان وصالونات حلاقة وملحمة (قصاب) بالإضافة إلى عيادة طبية وطبيبين (درسا في الجامعة الأمريكية في بيروت) وممرضتين.
وبحسب وليد الخالدي في كتابه "كي لا ننسى"، فإن لفتا كانت تنهض على سفح تل شديد الانحدار مشرفة على وادي سلمان. ويمر الطريق العام الممتد بين القدس ويافا جنوب غرب القرية مباشرة، كما تربطها طرق ترابية بمجموعة من القرى المجاورة ويعتقد أن لفتا شيدت في موقع "مياه نفتوح" وهو نبع ماء مجاورة للقدس، وقد أطلق على الموقع اسم مي نفتوح خلال العهد الروماني، كما أطلق عليه اسم نفتو في العهد البيزنطي.
ولا يكاد يعرف شيء عن القرية في العهد الإسلامي الأول، إلا أن القرية عرفت أيام الصليبيين باسم كليبستا.
في سنة 1596، كانت لفتا قرية في ناحية القدس (لواء القدس)، وعدد سكانها 396 نسمة، وكانوا يؤدون الضرائب على عدد من الغلال كالقمح والشعير والزيتون والفاكهة بالإضافة إلى البساتين والكروم. في سنة 1834 كانت لفتا تقوم على جانب تل شديد الانحدار، وإلى الجنوب منها نبع وقبور محفورة في الصخر.
أما منازل القرية فقد بنيت في معظمها بالحجارة، متخذة شكل خط محيط التل، كما كانت الأزقة القديمة فيها تمتد على شكل متسم بخطوط منحنية. وقد توسعت القرية توسعا ملحوظا في عهد الانتداب، وامتد البناء فيها شرقا، صاعدا منحدرات جبل خلة الطرحة، واصلا القرية بأبنية حي روميما في المنطقة الشمالية الغربية من القدس الغربية.
كما امتد البناء نحو أسفل التل في الجنوب الغربي، في موازاة الطريق العام الممتد بين القدس ويافا. وكان معظم سكان لفتا من المسلمين، بينما قدر عدد المسيحيين من سكانها في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي بـ20 نسمة من مجموع 2550 نسمة يقيمون فيها. وكانت وسط القرية تشتمل على مسجد ومقام للشيخ بدر- وهو ولي محلي- وبعض الدكاكين.
كما كان فيها مدرسة ابتدائية للبنين، وأخرى للبنات أنشئت في سنة 1945، بالإضافة إلى مقهيين وناد اجتماعي.
والواقع أن القرية كانت ضاحية من ضواحي القدس، تربطها بها علاقات اقتصادية وطيدة. وكان سكانها يبيعون منتجاتهم في أسواق القدس، ويستفيدون مما تقدمه المدينة من خدمات.
وكانوا يتزودون مياه الشرب من نبع في وادي الشامي، ويزرعون أراضيهم حبوباً وخضروات وأشجار مثمرة منها الزيتون والكرمة. وكانت أشجار الزيتون تغطي 1044 دونما. وقد تركزت زراعات القرية البعلية في وادي الشامي. في 1944/1945، كان ما مجموعه 3248 دونما مزروعا بالحبوب.
وحول القرية اليوم، كتب الخالدي: المنازل الباقية في الموقع مهجورة في معظمها، ولم يبق من الحوض الذي شيد حول النبع في وادي الشامي سوى الأنقاض، ويظهر المسجد ونادي القرية شمالي النبع. وتحف بالجانب الغربي من المسجد مقبرة تغطيها الأشجار والأعشاب البرية.
ويقع بستان التين واللوز، التابع للقرية، في غور واد بمحاذاة مسيل ماء يتدفق من النبع. وقد انتقلت عائلات يهودية للسكن في ثلاثة من المنازل القديمة في القرية، بينما تظهر أطلال المنازل الأخرى في مواضع متفرقة في القرية.
في عام 1987، وضعت سلطة المحافظة على البيئة الإسرائيلية مخططا يهدف إلى ترميم القرية وتحويلها إلى مركز لدراسة التاريخ الطبيعي في الهواء الطلق، من أجل (تعزيز الجذور اليهودية في الموقع).
وستمول التبرعات هذا المشروع، الذي تقدر تكلفته بعشرة ملايين دولار أميركي.
أقيمت على أراضي القرية مستعمرة مي نفتوح وغفعات شاؤول، وأصبحت اليوم في جملة ضواحي القدس.
_