الاحتلال يشدد من إجراءاته العسكرية شمال القدس    تحقيق لـ"هآرتس": ربع الأسرى أصيبوا بمرض الجرب مؤخرا    الاحتلال يشدد إجراءاته العسكرية على حاجز تياسير شرق طوباس    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال لمنزل في رفح جنوب قطاع غزة    الاحتلال يواصل اقتحام المغير شرق رام الله لليوم الثاني    جلسة لمجلس الأمن اليوم حول القضية الفلسطينية    شهيدان أحدهما طفل برصاص الاحتلال في بلدة يعبد    مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم  

"فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم

الآن

محمد الحاج يوسف: الأرض علاجي وحياتي!

جنين-ألف- عبد الباسط خلف:
 يستضيف وجه الثمانيني محمد الحاج يوسف العديد من التجاعيد، التي تخفي أسراره، فهو الذي أدمن عشق الأرض منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره، واستمر في مشواره إلى أن أشتعل رأسه شيبا. في شريط ذكرياته العتيق -الجديد، يختزن الذي ورث عن والده النهج ذاته، ونقلت إليه والدته الكثير من التعاليم التي وصلت إليه ولم يتخل عنها ولو للحظة واحدة.
يقول الحاج يوسف الذي خرج إلى الحياة العام 1927: "عمل والدي في الزراعة واستصلاح الأرض، كان يحول الأراضي الوعرة والصخرية لجّنة زيتون أخضر، فتعلمت أن الأرض هي أساس كل شيء. وفي الثانية عشرة من عمري، تركت المدرسة وحُصرها التي كنا نجلس عليها، وانتقلت لمساعدة والدتي ووالدي في رعي الأبقار، ولم أرغب بمواصلة الدراسة، فأنهيت الصف الرابع ولو واصلت حتى الصف السادس لأصبحت مدرساً، وتعلمت بعدها تعمير الأرض وتحويلها إلى حدائق معلقة. وكنت متفوقاً في دراستي، وكنا نتلقى التعليم على فترتين، تبدأ الأولى من الصباح الباكر إلى الظهيرة، نعود بعدها لتناول الغداء في بيوتنا، ونستأنف الفترة الثانية حتى تغيب الشمس".
يستذكر تفاصيل دقيقة من دروس الجغرافيا، يوم كان يتتبع مسار القطار من أول القارة الأوروبية الباردة إلى آخرها، ففي بلد كألمانيا مثلاً عرفوا خريطتها الداخلية ولا زالوا، وتعرفوا لجبالها ولأنهارها ومدنها ولدول الجوار فيها، وربما كان هذا السبب في شغفه بالأرض، فالجغرافيا هي التي تعرف المرء ببلده وبأرض أجداده وبقيمة كل شبر من البقعة التي شهدت ولادته وشغبه وتضحياته.
يقول: "هذا الجيل مختلف ولا يهتم بأرضه، بل على العكس يعمل على ضياعها وبيعها، ومن يبيع أرضه، يبع كل شيء، ويبعُ حتى نفسه" هكذا يقول ويتساءل: "ما قيمة الإنسان بلا أرض، وما فائدة الأموال إذا لم يجد الإنسان مكاناً يمارس فيه حبه بأرضه وشجرة وتاريخه؟".
في الثانية عشرة تعلم الحاج محمد الذي يسكن بلدة برقين الجار اللصيق لجنين الكثير من هيامه بأرضه: "كانت يومها الحرب العالمية الثانية قد بدأت، كنا في النهار نرعى الأبقار ونساعد العائلة في زراعة الأرض وتعشيبها وحصد ثمارها، وفي الليل نتحلق في منزل المختار للاستماع إلى نشرات الأخبار من المذياع الوحيد الذي ولى عهده."
كبر أبو أنور، الذي أنجب 7 أولاد وابنتين، وكبرت معه الأيام، وتعلم في الرابعة عشرة وقبلها حراثة الأرض، وزراعة الأشجار والحصاد بواسطة المناجل التقليدية، وقبل أن ترى آلة الحصاد النور.
يقدم كشف حساب بما كانوا يمارسونه في موسم ما، البداية في حرث الأرض بعد أن تجف من مطرها الذي كان أكثر غزارة من أمطار السنيين الحالية. ففي فترت معينة ومواسم كثيرة كنا نجلس في بيوتنا أربعين يوماً بسبب غزارة الأمطار: "لم يكن الجار يعرف الوصول إلى جاره، ثم نزرع القمح في كانون الثاني وقبله، وفي مواسم نتأخر إلى شباط، ثم ننتقل للزراعات الصيفية. فنحرث الأرض على البغال والحمير، ونرش قبله القليل من الزبل العربي من روث أبقارنا، ثم نرزع البطيخ والشمام، لم نكن نعرف الأسمدة الكيماوية، ولم نلجأ لري مزروعاتنا. وحتى الأمراض والآفات الزراعية لم تعرف حقولنا ومقاثينا الآفات الزراعية التي صرنا نسمع عنها في هذه الأيام".
ويضيف: "ومن بدايات نيسان وحتى نهاية تموز كنا نغادر بيوتنا ونسكن في الحقول، نوزع عملنا بين رعاية المقاثي (مزارع البطيخ والشمام)، وتجهيز الأرض لزراعة السمسم، وبعد جني المحاصيل التي تتزامن أحياناُ مع الحصاد، كنا نصدرها إلى أسواق الشام والعراق والأردن، ثم نلتفت إلى مواسم السمسم، نعشبه ونجهز أنفسنا في آب لقلعه وجنيه وللبدء في موسم آخر".
يسترسل في حنين إلى الماضي: "في مساحات واسعة داخل البلدة أو في أطراف المرج، كنا ننقل أكوام القمح وبعدها نشرع في إعداد ألواح خشبية ثقيلة تربط ببغل أو حصان ثم نلف عدة مرات حتى يتحول البيدر إلى تبن ناعم، بعدها نواصل العمل فنـُذَرِي التبن والقمح أو الشعير كل على حدة، ونستأنف العمل، إذ ننقل الحبوب إلى مخازن أو خـَوابي وهي مجموعة من الصفيح والخشب تصنع يدوياً، ويترك في أسفلها باب صغير، وتضاف الحبوب من أعلاها ثم تغلق، لحفظها من القوارض والتلف والرطوبة. وأما التبن أو قشور المحاصيل، فتنقل إلى أماكن تسمى (تبان)، ونطعمها للأبقار والماشية والبغال والحمير التي نستخدمها في الحراثة".
يضيف: "كانت مواسم البيادر عرساً شاملاً إذ لا يعرف خلاله الناس النوم أو الجلوس في المنازل، ولهذه الأمكنة عشرات الحكايات والقصص وفيها كانت تبرم صفقات زواج وتجارة واتفاقات ضمان أرض أو بيعها أو تبديلها أو تعميرها وكذا طرائف الأحداث، وكانت في فترات النكبة والنكسة منتديات للسياسة ومناقشة هموم البلد والولد".
ينتقل أبو أنور وقد بدا شغوفاً بالحديث عن ما سلف من أيام، إلى السمسم الذي كانت طقوسه مختلفة نوعاً ما. فهو أولا يترك بعد قطفه وتحزيمه في مجموعات، بعد نقله من الحقل إلى أن تجففه الشمس. ثم يقلب كي تصله الشمس. ولاحقاً تتم مراحل جمع بذوره، إذ تتفتح الأجراس، وتهز وتضرب بالعصي أو ببعضها. وتنقل الحبوب إلى البيع والتزود بالغذاء، وأما القشور فتجمع لتحضير (كبارات) لصناعة الجير (الشيد).
يتوقف للتعريف بالكبارات، التي تسمى الواحدة منها في بعض المناطق (اللتون)، التي يظن أن الجيل الطارئ لا يعرفها، فيقول: " كنا أول نحفر حفرة كبيرة ونبني قبتها من الصخور وكذا جوانبها، وكنا نترك فتحة من إحدى الجوانب، نشعل النار ونزودها بوقودها من قشور السمسم، وبعد فترة من النار والعمل، كانت الصخور تتعرض للذوبان، ونحصل في النهاية على الشيد لبناء العقود".
يستمر الحاج يوسف في مسيرته اليوم، رغم سلسلة أوجاع غزت جسده. فيحرص على اصطحاب الآليات الثقيلة لأرضه. ويزيل الصخور، ويزرع المزيد من الزيتون. ويتحامل على علله، ويقلم زيتونه، ويوجه أولاده إلى حراثة الأرض غير مرة.
صار يشاهد ما يدمي القلب، وفق وصفه، عندما تبدأ أعمال تجريف الأرض وتخريبها، لإقامة بيوت وشوارع عريضة. ويتمنى أن تعود عجلة التاريخ إلى الوراء، لأن الناس كانوا أكثر قرباً من الأرض.
يختتم: "لا أجد السعادة إلا في الأرض، وأتأثر إذا ما اقتلع أي إنسان شجرة. فالغرس والزيتون يعز علينا مثل أولادنا. وإذا ما ذهبت إلى حقولي نسيت مرضي، فهي مثل الدواء".

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024