رحلة «الشامي» إلى طولكرم
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
ثائر نصار*
ركب أيمن الشامي القطار من محطة دمشق في شباط 1948 متوجهاً نحو فلسطين، يحدوه الأمل في توسيع نطاق تجارته التي شرع في العمل فيها قبل أشهر قليلة، وقد ترك خلفه زوجته الحامل بطفله البكر، واعدا أن يكون في دمشق قبيل وضعها بأيام.
تحرك القطار ثقيلاً قاطعا بلاد الشام من طريق درعا، فالحمة، إلى جسر المجامع، مرورا ببيسان فالعفولة، حتى توقف في مدينة طولكرم في الوسط الغربي لفلسطين التاريخية. انطلقت صافرة القطار معلنة التوقف ليرتاح المسافرون تحت كروم العنب المنتشرة في هذه الأرض الخصبة. وللقصة بقية، سوف تكتمل فصولها بعد ستة عقود.
عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» أدى تطابق أسماء العائلات بين أيمن الشامي من بيروت وشام الشامي من طولكرم، وبعد أحاديث طويلة، الى أن يكتشف الكهلان أنهما أخوان لأب سوري استقر في طولكرم قادما من دمشق جراء الحرب التي دارت رحاها في فلسطين عام 1948، واستثمر في معصرة للعنب، وتزوج وأنجب قبل أن يفارق الحياة في ثمانينيات القرن الماضي.
عائلة واحدة فرقتها الحرب والحدود وقيام الدولة العبرية على أرض فلسطين، عندما لم يعد الزوج إلى بيته في دمشق، فأنجبت زوجته طفلا حمل اسم أبيه المفقود، وعانى أيمن الشاب احتلال «اسرائيل» لبيروت التي انتقل إليها حيث تقطن عائلة والدته. واليوم يحادث أخاه «المكتشف» في حياته حديثا عبر لوحة مفاتيح، كون فلسطين ما زالت محتلة ولا يستطيعان أن يلتقيا.
طلب أيمن من شام أن يصف له الأرض التي عاش فيه والده ودفن في أرضها الخصبة، فبدأ شام في رحلة شجية تحكي قصة طولكرم عبر العصور حتى احتضنت جثمان والدهما الفقيد.
الكاميرا تروي الحكاية
ركب شام سيارته من الحدود الشرقية لمحافظة طولكرم، التي يقطنها 158 ألف نسمة (بحسب الجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني للعام 2007)، وتمتد على مساحة 14 ألف دونم، حاملا كاميرا فيديو منزلية ليوثق الأرض التي عاش فيها والدهما، ويرسلها إلى أخيه في بيروت. توقفت السيارة اضطراريا عند حاجز «عناب» العسكري الإسرائيلي الذي يبعد عن مدينة طولكرم 10 كم، ويغلق بوابتها الشرقية المؤدية إلى طريق القدس التي تقع على بعد 75 كم. تجاوز الحاجز بعد تفتيش روتيني، وانطلق غربا عبر الشارع الرئيس ليقف في بلدة عنبتا، ويحتسي الشاي بالنعناع في حوش بيت لصديق له، عند القوس التاريخي وسط البلدة، حيث ألقى شاعرها الشهيد عبد الرحيم محمود قصائده الوطنية لشحذ همم الأهالي من أجل مقارعة الاحتلال البريطاني والاستيطان اليهودي، وهو القائل:
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى
وأكمل شام رحلته التوثيقية غربا، مرورا بأحراش بلدة بلعا التي تعتلي السفح الغربي المجاور لمدينة طولكرم، حيث وقعت معركة المنطار الشهيرة بين الثوار الفلسطينيين الذين تحصنوا في وسط أشجار السرو والصنوبر في مواجهة الجيش البريطاني عام 1936، بقيادة الشهيد عبد الرحيم الحاج محمد.
مخيم نور شمس
مرورا بكروم الزيتون المنتشرة في السهل الخصب على الطريق إلى مدينة طولكرم، وعلى الجانب الأيسر من الطريق العام، أنشئ عام 1949 مخيم نور شمس للاجئين الفسطينيين، الذي استمع شام لحكاية مخاضه العسير تحت شجرد سنديان باسقة على أطرافه، على لسان الكاتب آصف قزموز، وهو لاجئ من قنير قضاء حيفا نزحت عائلته واستقرت في المخيم بعد نكبة العام 1948. يتنهد قزموز نافثا دخان سيجارته، ثم يروي ذكريات اللجوء: «بعد النكبة نزحت عائلاتنا من قرى قضاء حيفا مثل قنير وصبارين والسنديانة، ونصبت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) خياما للاجئين في هذا المكان الذي كان سجنا إبان الاحتلال البريطاني، مخصصا لذوي الأحكام المؤبدة، حيث كان السجناء يعملون في كسارات الحجر بجوار السجن، ولا يرون النور أبدا بين عمل شاق واعتقال.. وبعد الأيام الأولى للنزوح، اتخذ اللاجئون غرف السجن القديم مساكن لهم، وتم تسميته بنور الشمس كناية للسجن الذي حجب الشمس عن المناضلين الفلسطينيين، وتوسع المخيم وأصبحت البيوت المتراصة فيه خاصرة مؤلمة للاحتلال الإسرائيلي لمحافظة طولكرم الذي امتد من العام 1967 حتى قيام السلطة الفلسطينية.
مخيم طولكرم
ومن ثم، يوثق شام بالصورة لأخيه أيمن الأماكن والأسواق والأراضي التي ارتادها والدها في مدينة طولكرم. ويمر في مخيم اللاجئين الثاني في المحافظة المسمى بمخيم طولكرم، والملاصق للمدينة، حيث يقطن آلاف اللاجئين الذين يتميز معظمهم بالبشرة السمراء التي ورثوها من جنوب فلسطين التاريخية في النقب وبئر السبع.. جلس شام في أحد المقاهي المنتشرة على طول المخيم المزينة جدرانه بصور لأبنائه الشهداء والأسرى ممن انخرطوا ببسالة في فعاليات انتفاضة الأقصى، ما اضطر قوات الاحتلال لعزل المخيم أسبوعا كاملا بالأسلاك الشائكة في عام 2002، وشن حملة قتل واعتقال طالت العشرات من أبنائه، كما يقول الكهل السبعيني أبو محمد السروجي، الذي فقد 4 من أبنائه، 3 في سجون الاحتلال، والرابع شهيد، خلال الانتفاضة.
من الكنعانيين إلى الأمويين
في محاذاة الساحل الفلسطيني، وعلى بعد 15 كم عن شاطئ البحر الأبيض المتوسط، في سهل خصب التربة ومعتدل المناخ، يفصل بين أراضي السلطة الفلسطينية والأراضي المحتلة عام 1948، تتربع مدينة طولكرم على ارتفاع 120م عن سطح البحر؛ تلك المدينة الضاربة جذورها في التاريخ، فالآثار المكتشفة فيها تعود إلى الكنعانيين الذين ركبوا البحر مكتشفين ومشيدين لحضارة بلاد الشام قاطبة، وقطنوا في هذه البقعة التي أطلقوا عليها «تل- كرمة العنب»، في العصر البرونزي المتقدم والمتوسط. ويؤكد رئيس بلدية طولكرم المهندس إياد الجلاد أن «المدينة بدأت رحلة بنائها الحضرية في زمن الرومان الذين أطلقوا عليها اسم (Birat Soreqa) أي بئر الكرم، واستمرت هذه التسمية حتى اختار الأمويون لها اسم (طور كرم) بمعنى جبل العنب كناية إلى كثرة كروم العنب التي اشتهرت بها المدينة.. وتحور الاسم مع تعاقب الزمن حتى استقر على تسميتها الحالية (طولكرم)».
بين أشجار طولكرم
طاف الجلاد بشام في أحياء المدينة، التي يترأس مجلس بلديتها الرابع والعشرين منذ تأسيسها عام 1886 في فترة الحكم العثماني، وكاميرا شام توثق آثارها العظيمة. ففي وسط المدينة عند نهاية الشارع العثماني القديم، يقع مبنى المتحف التاريخي الذي يعتليه سقف مثلثي الشكل قرميدي متوهج تحت أشعة شمس صيف طولكرم، مرفوعا على حجارة قديمة صخمة. ويتكون المتحف من أربع غرف كبيرة باردة، وصالون وحديقة يزينها زهر الياسمين. وقد اشتهر تاريخيا باعتباره دائرة لـ«البرق والبريد» العثماني، ثم تحول إلى مقر للمصالح الحكومية المتعددة للاحتلال البريطاني، وأعادت السلطة الفلسطينية ترميمه والعناية فيه ليصبح متحفاً يحكي رواية طولكرم التاريخية، كما يروي الجلاد.
في الشارع العثماني ذاته، يطل مبنى من طبقتين يروي تعاقب السلطات على طولكرم، ففي غرفه العالية المقببة اتخذت الحكومة العثمانية مقرا لـ«القائم مقام» أو دار الحكومة، ثم تحول إلى سجن عثماني، فمقر للجنود البريطانيين، حتى أمسى اليوم معلما تاريخيا وثقافيا يعرف بـ «دار الثقافة والفنون».
وفي وسط المدينة، وثق شام لشقيقه سوق المدينة القديم الذي ما زال يحتفظ بطرازه العثماني الشاهق الارتفاع والمسقوف بالحجارة اتقاءً لشمس الصيف الحارة، وأصبح يعرف بسوق الذهب لاتخاذ تجار الذهب محالا كثيرة فيه. وفي نهايته، حيث توجد الكنيسة الأرثوذكسية التاريخية، والوحيدة في طولكرم، قال شام بصوته موثقا لأخيه أيمن عندما يرى الفيلم، «هنا بجوار الكنيسة كان والدنا يتخذ محلا لإدارة تجارته وترويج محصول العنب وتصديره».
مواقع تاريخية ومقامات
قابل بائع الخروب المتجول بملابسه المزركشة حاملا جرته النحاسية المثلجة، رئيس البلدية وشام، وضيفهما كأسين من الخروب الطبيعي، واستمر في النداء العذب لكل العطشى: «خروب يا عسل».. وتحدث الجلاد عن الآثار والمواقع التاريخية والمقامات العديدة المحيطة بالمدينة، مثل «خربة ارتاح» المبنية أساساً كمعصرة للعنب، ومرصوفة بالفسيفساء البيضاء التي تحيط بها من جهاتها الأربع، ومقام بنات النبي يعقوب، الذي يمثل طابقه الأرضي مبنى رومانيا، والعلوي مقاما إسلاميا مكونا من غرفتين وقبة، وقرية كور التي شيد معظم بيوتها القائد الظاهر بيبرس، في العهد المملوكي، وأقام بها معسكرا أثناء حملته لتحرير القدس من الصليبيين، واستقر فيها أعواما، بالإضافة إلى عشرات المواقع الأثرية البيزنطية والرومانية والإسلامية في القرى المجاورة لمدينة طولكرم.
احتلال ونهب للأراضي
إلى غرب المدينة المكتظة بالحياة، وصل شام إلى المكان الذي اقتطع منه الاحتلال الاسرائيلي 34 قرية وخربة، إضافة إلى 16 مضربا للبدو من أراضي طولكرم، وحرم المدينة من ساحل البحر المتوسط الذي حباها جواً دافئا ماطرا ومعتدلا في الشتاء، ليظهر أثر العدوان الإسرائيلي من خلال جدار الفصل العنصري الذي يمتد على طول 40 كم من الغرب إلى جنوب المدينة، مقتطعا ما مساحته 19 كم2 من أكثر الأراضي السهلية خصوبة في المحافظة، وعازلا قرى غرب وجنوب المحافظة (جبارة، النزلة وباقة الغربية). وعلى الحدود الغربية للمدينة وعند نقطة التقاء «الخط الأخضر» الفاصل للأراضي المحتلة، تحدى الفلسطينيون الاحتلال وشيدوا في طولكرم جامعة فلسطين التقنية (خضوري)، إحدى أعرق المؤسسات التعليمية الفلسطينية التي وضع الحجر الأساس لها في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي. ورغم مصادرة الاحتلال لجزء من أراضي الجامعة، إلا أنها ما زالت تخرج الأجيال، خصوصا في التخصصات التقنية والمهنية، حيث تخرج منها علماء أشاد العالم بهم كالبروفيسور حسن حسن، الذي تخرج منها ليكمل بعدها دراسته في الهندسة الفضائية في الولايات المتحدة ويصبح من أهم علماء الفضاء في وكالة «ناسا»، كما يقول رئيس الجامعة د. مروان عورتاني.
«الشامي» يختتم لرحلته شهيدا
وصلت رحلة شام إلى نهايتها، مخترقا شارعا في جنوب المدينة تحيط به أشجار السنديان والحمضيات على جانبيه، مشكلة سقفا طبيعيا يظلل شارع «الشهداء»، حيث دفن أعلام المدينة وأدباؤها وشهداؤها عبر سنوات النضال الطويلة ضد الاستعمار المتلاحق على المدينة.. دخل شام عبر باب المقبرة الشاهق بجلال وسكينة، وضع إكليلا من الغار على ضريح مكتوب عليه «هنا يرقد البار أيمن الشامي.. قدم من دمشق عام 1948 وناضل وعاش ودافع عن طولكرم حتى لقي وجه ربه شهيدا عام 1988 برصاص الاحتلال الاسرائيلي في مظاهرة خلال الإضراب التجاري الكبير في بداية انتفاضة الاقصى الأولى .. الفاتحة».
أطفأ شام زر التسجيل في الكاميرا المنزلية التي يحملها، ووضع الفيلم كما هو بلا مونتاج ولا حذف، في طرد بريدي، وكتب عليه: إلى شقيقي اللبناني الفلسطيني أيمن أيمن الشامي .. على أمل أن يعود خط السكة الحديد بين الشام وفلسطين».
* صحافي فلسطيني مقيم في طولكرم
عن السفير اللبناينة