الثمانيني خضر: حنين لا يخبو ليافا وبيسان
سرد الثمانيني سميح رشيد خضر حكايته مع مدينتي يافا وبيسان، حيث تعلم وعاش طفولته وامتهن تجارة الأقمشة. وعرضت الحلقة السادسة والعشرون من برنامج "ذاكرة لا تصدأ" التي تنظمها وزارة الإعلام واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة مقتطفات من حكاية خضر مع يافا وبحرها ومدارسها وأسواقها، فيما أعاد رسم صورة لبيسان وأحوال أسواقها، ولحظات الرحيل منها خلال نكبة عام 1948.
يروي: توفيت أمي وأنا في الثالثة من العمر، وربتني أختي الكبيرة، ولما خطبت من المعلم عبد الكريم عبد الرزاق، الذي كان يعمل في يافا، اشترطت عليه أن تأخذني وأختي الصغيرة ( 5 سنوات) معها، فوافق. وقد غادرت طوباس للعيش في يافا عام 1934، وأتذكر جيدًا شوارعها ومتاجرها ومدرستها وبحرها وسمكها، وتنقلنا فيها بين المنشية ( أحد أكبر الأحياء الشمالية) والبلدة القديمة، والحي الذي يضم مسجد حسن بيك، ومنطقة الكرمل، وتعلمت من الصف الثالث للسادس، ورفضت بداية الأمر عرض أبي أن أترك أختي، وهربت مراراً منه، ولم أوافق أن أذهب لبيسان، وفي إحدى المرات هربت من محطة الباصات التي كانت تنقلنا من يافا إلى طولكرم ثم بيسان.
ذكريات مدرسية
كان خضر الطالب الأول في الدروس كلها، واضطر أخيراً للانتقال من يافا إلى بيسان كرهًا عنه، وترك المدرسة بطلب من والده، بالرغم من |أنه انتزع الترتيب الأول في اللغة الإنجليزية على مستوى مدارس فلسطين كلها.
يقول: جاء مدير مدرستنا حسن فرحات ( ينحدر من نابلس)، وأستاذ اللغة الإنجليزية الأرمني جورج توماتيان، وأخبرا والدي في الدكان أنني متفوق على كل الطلاب في فلسطين باللغة الإنجليزية، ومن الأوائل في الدروس الأخرى، وعليّ أن أكمل دروسي. لكن والدي –رحمه الله- رفض طلبهما، وقال لهما: سأعلم ابني التجارة، ولا حاجة له بالشهادات والتعليم. وقد فتح لي والدي حسابًا في البنك العربي بفرع يافا، ثم انتقلنا لبيسان.
مما لا يسقط من ذاكرة الرواي، كيف كان أستاذهم توماتيان يقدم دروسه في الصف، إذ يبدأ الطلاب بالتمثيل، فيتقمص أحدهم دور الخياط، وآخر الزبون، وثالث التاجر، ليفتحوا حواراً بالإنجليزية يشمل استخدام الكثير من الكلمات الجديدة، وذات الصلة بموضوع الدرس كل مرة.
35 جنيهاً للبذلة
يزيد: أسس والدي دكانه، فقد كنا نبيع الأقمشة والمواد التمونية الأخرى، وهي العادة التي كانت دارجة في المدينة كلها. ومن الأقمشة التي كانت شائعة في محلنا على الشارع الرئيس المؤدي لطبريا (الملس) أسود اللون للعرسان، والشييت، والياباني، والخام، والقرط.
والمفارقة أن أجرة تفصيل البذلة الرسمية في يافا وبيسان كانت تصل أحياناً إلى 35 جنيهاً فلسطينياً، وكان الخياط حافظ الكيالي يطلب 35 جنيهًا بها، في وقت كان لا يتعدى مهر العروس 150 جنيهاً، أما دونم الأرض فكان بثمن زهيد يقل عن البذلة نفسها.
يتابع: تمسك والدي بيسان، وظن أنها لن تسقط بيد العصابات الصهيونية، فقد كان يقول لي ( إن بيسان باب أربد، وأربد باب الشام، ولن يسمح الملك عبد الله بسقوطها)، وبالفعل أرسل رجالًا لحمايتها. أما نحن فاشترينا سلاحًا ألمانياً، وكان ثمن البندقية 85 جنيهاً.
ظل خضر ووالده في بيسان، فقد كان الرواي السابعة عشرة، وعرف كل طرق المدينة ومخارجها، وألم بتفاصيلها، وتعلم كل فنون التجارة، وكان ذكياً، وأتقن الإنجليزية. وكان يشاهد الناس وهم يرحلون عن المدينة خوفاً، بعد انتشار أنباء المذابح، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية. وخلال عشرين يوماً كانت بيسان قد خلت من معظم أهلها، وبقيت عائلة خضر حتى آخر لحظة.
يفيد: أقام اليهود حاجزًا على مداخل المدينة، وسمحوا للناس بالخروج منها، ومنعوا أي شيء من دخولها، وكانوا يصادرون كل ما يقع تحت أيديهم، ونهبوا المدينة، التي كانت تفرغ من العصابات الصهيونية خلال الليل. وبحكم عمل والدي في التجارة، فقد اشترى أكثر من سبع دكاكين قبل سقوط البلاد، واحتفظ بأمواله في خزنة حديدية كبيرة، ودفن نحو ألف جنيه في مكان ما بمنزلنا، ثم تسلسل مرتين لإحضارهما، ونجح في ذلك.
مفاتيح
يحتفظ خضر بمفتاح منزل عائلته ودكانه، وتجمع الكثير من الصور في يافا بأخوته، ويقول إن مفتاح الخزنة المعدنية لا زال في جيبه، ويحرص على كل وثائقه وسنداته التي تذكره بيافا وبيسان، ويقول إنها غالية على قلبه.
يضيف: عملت بعد النكبة بعام سائقاً، وواصلت في هذه المهنة حتى توفيت زوجتي عام 1998. وقد تنقلت بين أكثر من شاحنة ومركبة وقلاب، ولا أنسى سيارة الشحن الألمانية التي كنت أنقل فيها الخضروات من الغور لنابلس، في اليوم نفسه لنكسة عام 1967، ولم نتمكن من الوصول فتوجهنا لأريحا، ولم نستطع من بيعها، فواصلنا السير لعمان، ولم أتمكن من العودة، إلا بعد عدة أيام، شاهدت فيها النازحين والدبابات المحترقة وأجواء الرعب والهلع ونسف الاحتلال لجسر دامية.
توثيق
بدوره أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس عبد الباسط خلف، أن "ذاكرة لا تصدأ" استطاع خلال سنتين توثيق أكثر من40 قصة لشهود على النكبة، ذاقوا مرارتها، وخسروا ديارهم في قرى حيفا وجنوب فلسطين والرملة وبيسان.
وأضاف أن البرنامج يستند للتاريخ الشفوي، الذي يعتبر أحد مصادر كتابة التاريخ، في وقت يتهدد الموت رحيل الجيل الأول، الذي كان شاهداً على فصول النكبة السوداء.