ماذا يقولون بالآرامية: يكفي اللبيب؟ جواد بولس
أوثر ألا أعود إلى الكتابة حول وطنية العرب الفلسطينيين المسيحيين ودورهم التاريخي في المنطقة، وكيف أثرى وجودهم حضارة وثقافة المجتمعات الشرق أوسطية على مدى الحقب والزمن؛ أقول هذا وأعي أن بعض الغيورين كتبوا ليفنّدوا حجة من ادّعى بجهله، مؤخرًا، أن أولئك أراميون، فاستفز "كشفُه" الواهي حبر البعض، فنطقت أقلامهم بأمانة ومنطق معرّية الفرية ومزيلة عنها، بالعقل والعلم والوطنية الحقة الصادقة، رقائق الزيف والبؤس والضغينة.
الادّعاء بأن المسيحيين العرب مواطني اسرائيل هم من قومية أرامية هو فقاعة، كان الأولى بجميعنا أن لا نعيرها التفاتة ولا لمطلقيها، بل أن نتركها تطير ليبلعها الفضاء؛ فمن هباء ولدت وإلى هباء ستعود.
فما يجب، برأيي، أن يشغل بال قيادات الجماهير العربية الوطنية في البلاد هو مستقبل مـن بقي من المسيحيين الفلسطينيين العرب، وليس تواريخ انحدارهم من "تغلب" و"لخم" و"غسان". فبيننا إجماعان، حول هذه المسألة:
الأول: أن أعداد المسيحيين العرب في فلسطين التاريخية في تناقص صارخ مستمر، حتى بات وجودهم هامشيًا، وليس ذا وزن وتأثير في المناخ العام السائد في المجتمع الإسرائيلي الكبير، أو في فضاء المجتمع العربي المحلي، الذي يشهد، منذ عقود، انحسارًا في التوليفة الاجتماعية المدنية المشتركة لصالح هيمنة ثقافة إسلامية استحواذية بارزة ضابطة لكل مناحي الحياة في القرى والمدن ذات الديانة الواحدة، وكذلك في القرى والمدن المختلطة، بتفاوتات لا محل لذكرها هنا.
أمّا أصحاب الاجماع الثاني، فأقرّوا بضرورة المحافظة على الوجود المسيحي في مجتمعاتنا، لأن فيه إثراءً للثقافة والحضارة وسعادة البشر
لتناقص أعداد المسيحيين في فلسطين أسباب عديدة، وهي للتأكيد، لم تبدأ في عهد داعش وأمثالها، ولا جراء صدام مع الاخوة العرب المسلمين، ولا نتيجة خوف، حقيقي أو وهمي أو مصنّع- كما هو الحال في بعض المواقع اليوم- من جيرة مشتركة، وعيش لم يعرف، بقواعده العامة، إلا وحدة المصير والحياة المشتركة.
في الماضي رصد بعض المتخصصين هذه الظاهرة المقلقة وكتبوا، قليلًا، عن أسبابها، فوجدوا، مثلًا، أن الدول الاستيطانية الغربية لعبت دورًا مهما في تشجيع المسيحيين على الهجرة، لا سيما عندما ساد الفقر وغزا الجوع ربوعنا، حينها توهّم البعضُ أن الهجرة وعد وحلم، والغرب سيكون حاضنةً طبيعيّةً ومشتهاة. ثم جاءت إسرائيل وجادت بأحابيلها التي لم تنقطع ليوم؛ فأغوت من أغوت، وغررت بأخرين واشترت (يهودا)، وأمثاله يعيشون وعاشوا بيننا منذ زمن المسيح.
لماذا وكيف يتبخّر الوجود المسيحي العربي من أرض المسيح؟
هو موضوع جدير بالدراسة والتحقيق بشكل مهني وعلمي، وباستقامة أكاديمية وجرأة إنسان حر، فأنا متيقن، مهما كانت أسباب الهجرة والتهجير وما هي دوافعها ومسبباتها في هذه الأوقات، من أن مصير المسيحيين العرب في فلسطين قد حسم، وهزيمة وجودهم، الحي والمؤثر، حاصلة على أرض الواقع.
للكشف عن أسباب حدوث هذه الهزيمة أو نفيها، أهميّة قصوى وأمل؛ على أن يكون ذلك من قِبل خبراء غيورين وليسوا مزايدين، أو علماء أكفاء وليسوا مهاترين، فكم نتمنى مجتمعًا يرفل بنسيج اجتماعي مشترك، وينهل من ثقافة معمّدة ممزوجة من ينابيعها التاريخية.
لينتظر من يعوّلون على "جودو العربي" وعلى ما سيجده من بيّنات وبراهين إزاء تلك القضية المأساة، أمّا أنا فسأحيلكم إلى كتاب حديث بعنوان" تواقيع على الرمل"، وهو عنوان يشي بما عاناه كاتبه، الدكتور حاتم عيد خوري ورفاقه الميامين أعضاء "جمعية أبناء أبرشية الجليل" الذين يخوضون منذ أكثر من عقدين معركة شرسة داخل مؤسسات الكنيسة الكاثوليكية الجليلية، وكل مرادهم منها، كما أفصح الكتاب، أن يتوقف المسؤولون فيها عن التفريط بعقاراتها، ويصحح القيمون عليه، من إكليروس وعلمانيين، ما أسماه الكتاب فسادًا إداريًا وماليًا مزمنًا.
عندما انتهيت من قراءة الكتاب وما أرفق معه من وثائق خطيرة ومهمة، أصبت بحالة قنوط فظيعة. فالكتاب/الوثيقة يسرد قصة عذاب نخبة من مسيحيي هذا الوطن الذين آمنوا وكتبوا ذلك لجميع القيمين على الكنيسة الكاثوليكية في المنطقة والعالم وأصروا: "على أن ضياع أوقاف كنيسة الروم الكاثوليك، في أبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل، وعدم استغلال هذه الاوقاف لمصلحة كل ابناء هذه الكنيسة، سيزيد من هجرة أبنائنا إلى خارج البلاد، وسيؤدي، في نهاية الأمر، إلى تحويل كنائسنا من جماعة بشر إلى كنائس آثار ومتاحف وحجر".
"تواقيع على الرمل" كانت وعود الكهنة التي لم تُحترم ولم تُنفذ، وفيه دليل قاطع عن مسؤولية رؤساء بعض الكنائس والمتنفذين العلمانيين فيها، وكلّهم عرب، عن تلك الهجرات، فجاء ظلمهم أشد مضاضةً من مستوطنين لكنائسنا، التي واجه أبناؤها ما واجهه أبناء أبرشية الجليل وأكثر وفي نفس الوقت يسطّر الكاتب بدقة ومهنية وافرة، إصرار مجموعة خيّرة من أبناء فلسطين المسيحيين الغيورين على أرضهم والمصممين على البقاء عليها وفيها، لأنهم مؤمنون بما قاله المسيح: "لا تخافوهم فانه ليس من محجوب إلا سيكشف ولا مكتومًا إلا سيعلم..".
في الكتاب نقرأ عن سبب مهم ساعد على هجرة المسيحيين العرب، وتنتظر البقية "حاتمًا" آخر ومن يؤمنون: "بإذا أسأتم الأمانة فمن سيعطيكم ما هو لكم؟"
ليكشفوا عن سائر الأسباب، قبل أن تتحول بقايا المسيحيين العرب لمحميات غير طبيعية في الوطن! وعن هذا قالوا بالآرامية: "داي لِحكيما بِرميزا"، يكفي اللبيب إشارة ليفهم!