المؤسسات الدينية ركيزة لتنمية المجتمع - د. حنا عيسى
لا ينكر منصف أن حسن السلوك والوازع النفساني لهما آثار جليلة النفع وأنهما إذا وجدا يوفران من الأتعاب على الولاة والحكام وإدارة الأمن ورجال المال والأعمال ما لا توفره القوانين والإجراءات الإدارية، على الرغم مما تحتاجه من كثرة رجال ووفرة أموال لتطبيقها وإجراءاتها، لذلك كان تهذيب النفوس ليحسن سلوكها وتربية الضمائر وبعث الشعور الحي فيها من أهم ما يلزم الأمم لتنعم بالحياة الطيبة والاطمئنان في الوجود الإنساني، ولا يكون المجتمع راقيا حقيقيا إلا إذا كان أهله ذوي ضمائر حية وسلوك حسن، ليؤدي كل فرد ما عليه من واجبات عن رغبة وطيب نفس ويأخذ ماله من حقوق من المسؤولين وغير المسؤولين بسهولة ويسر، دون حاجة إلى إلحاح أو اغتصاب أو تذمر وشكوى.
فالدين عنصر ضروري لتكميل القوة النظرية في الإنسان، فهو يخرج بالعقل والفكر عن سجن الماديات والمحسوسات إلى مجال الغيب الفسيح الذي يجد العقل فيه متعته ولذته من غير حدود ولا قيود، وبهذا تتسع مدارك الإنسان ويتفتح عقله على معارف شتى تشق أمامه الطريق إلى ما فيه خيره وسعادته . وهو عنصر ضروري لتكميل الوجدان، حيث يدعو إلى تعلق المخلوق بالخالق، وعرفان ماله عليه من فضل ومنه، ومراقبته في السر لاعتقاده أنه يراه، وبهذا تقوى عند الإنسان عاطفة الحب، والشكر، والإخلاص، والحياء.
والدين بما حواه من هداية إلهية وتشريعات سماوية، يكفل للمجتمع الإنساني كل عوامل السعادة والأمن والاستقرار، ولا يكون ذلك أبدا عن تشريع وضعي وضعه فرد أو جماعة لأمة معينة؛ ذلك لأن الإنسان مهما سما فكره ونضج عقله لا يمكن أن يحيط خبرا بكل ما يوفر للإنسانية سعادتها وأمنها واستقرارها، والله الذي خلق الإنسان، وركب فيه طبائعه ونوازعه، وآماله وآلامه، وإيثاره وأثرته، ورغباته وشهوته، هو الخبير بكل علله وأدوائه، والعليم بوسائل شفائه، وناجع دوائه، فهو وحده الذي يقدر أن يضع للجماعات الإنسانية من الشرائع والقوانين ما يحقق لها أسباب السعادة، ويوفر لها عوامل العزة والمنعة، ويهيئ لها كل وسائل الأمن والاستقرار، وذلك يكون في نطاق دين يدعوها إليه على لسان رسول منها، ويتعبدها به على أنه الدين الحق الذي لا يحيد عنه إلا هالك. والدين يجعل الجماعة الإنسانية على قلب رجل واحد، يجمعهم على الخير والبر، ويؤلف بين قلوبهم حتى يكونوا إخوة متحابين متناصحين، متعاونين، متكافلين.
ويبدو واضحاً في السنوات الأخيرة مدى الاهتمام النظري الذي تحظى به مسألة الدين وفحص دوره وتأثيره في مختلف مناحي الحياة، تارةً بوصفه نظاماً للمعرفة يستمد منه الناس تفسيراتهم لواقعهم المادي، وتارة أخرى بوصفة المحدد الرئيس لسلوكهم تصرفاتهم وما يضفون عليها من تبريرات، وتارة ثالثة بوصفه مؤسسة شديدة التأثير والنفاذ في تضاعيف حياتهم الخاصة والعامة. يعود هذا الاهتمام إلى أسباب عدة، لعل أبرزها ما شهده العالم في العقد الأول من الألفية من تصاعد للأصوليات الدينية وتنامي تأثيرها والسبب الثاني، كما يرى البعض، يكمن في مآلات سيرورة "العلمنة" و"المادية" إلى عالم شديد الخواء، تتحكم فيه قوى الظلم والاستغلال، وتنتشر في ربوعه مظاهر الفقر والتفاوت، بالرغم من المنجزات التقنية والعلمية والمادية الهائلة التي حققتها البشرية.
ان المؤسسات الدينية من مساجد وكنائس ودور عبادة ليس عملها الرئيسي - على الرغم من أهميته – أداء الصلاة فقط ، بل هي أحد الاسس الرئيسة في بناء المجتمع، وتوجيهه سواء من خلال حلقات العلم، و الدروس الوعظية، والمنهجية. وعلى هذا فإن المؤسسات الدينية لها أدوار و مهام متعددة، فتنمي المجتمع وتطوره، وتنشر فيه العلم والمعرفة و الأمن و الأمان.
والمؤسسات الدينية هي صمام الأمان للمجتمع، ولا تستقيم حياة مجتمع دون توفر الآمان لأفراده وجماعاته، حيث تعمل على تأمين المجتمع من الأفكار والأفعال المنحرفة، ويظهر ذلك في محاربته لآثار هذه الأفكار الوافدة التي تدعو إلى الشك والإباحية والفساد الخلقي والاجتماعي.
ناهيك عن الدور الذي تلعبه في توجيه الناس وإرشادهم للخير والصلاح والتطور.