في الذكرى العاشرة لرحيلك .. نفتقدك يا سيد الشهداء - د. عبد القادر فارس
عشرة أعوام مرت على الرحيل الكبير , للزعيم والقائد والرمز والأب الكبير , ياسر عرفات الكبير في وجوده , أبو عمار الكبير في حضوره وفي غيابه , الكبير في نضاله , الكبير في استشهاده , هكذا مضيت كما أردت " شهيدا .. شهيدا .. شهيدا , وليس طريداً أو قتيلاً أو أسيراً " , كما كان يريد لك الأعداء , وكأنني أسمعك تردد قول الشاعر الفلسطيني الثائر عبد الرحيم محمود ( أبو الطيب ) : فإما حياة تسر الصديق .. وإما ممات يغيظ العدا. عشرة أعوام مضت كنا فيها بحاجة إليك يا سيد الشهداء , عشرة أعوام تخللتها أحداث لا يقوى على حل مشاكلها سواك , عشرة أعوام شداد مرت على شعبنا , شهدت الخلاف والانقلاب والانقسام والحروب , كان شعبنا يفتقدك فيها كل يوم. اليوم في ذكراك , الكل افتقدك ويفتقدك .. والجميع بكاك ويبكيك , يا من مضيت عنا دون استئذان ، أنت الماضي فينا دوماً ، أنت الذكرى والذاكرة , أيها الحاضر في كل مكان ، كنا نرى في كوفيتك المستقبل القادم في كل أوان .. أنت يا سيدي الماضي والحاضر والمستقبل ، فأنت لم تمض ، إننا نراك ملء الزمان والمكان ، نراك في عيون الأطفال ، الذين كنت ترى فيهم المستقبل ، وأنت تردد دوماً " سيرفع شبل من أشبالنا ، أو زهرة من زهراتنا ، علم فلسطين ، فوق مآذن القدس ، وكنائس القدس ، وأسوار القدس". هذه القدس التي ترنو إليك عن قرب وأنت ترقد راضياً مرضياً ، تنتفض اليوم في وجه عصابات الاحتلال , وصوتك يهز أركان الأقصى الشريف " على القدس رايحين شهداء بالملايين " . وفي المكان الذي أحببت ، في رام الله التي حوصرت فيها والتي صمدت فيها , والتي استشهدت فيها، هي منذ كنت فيها , وبعد أن دفنت في ترابها , قبلة الثورة والثوار , وهي كما تركتها " قُبلة أبو عمار " الأخيرة , فيها كان الوداع الأخير يا سيدي حياً وشهيداً , فنعم الشهيد أنت يا سيد شهداء فلسطين , يا سيد الشهداء أجمعين ، ولطالما رددتها دائماً أنك مشروع شهادة. يوم رحيلك يا سيدي تجمد الحبر في أقلامنا ، مثلما تجمد الدم في عروقنا ، كنا نود لو نرسل إليك شلال دم من شرايينا وعروقنا ، من قلوبنا ، ليوقف ذلك التكسر في صفائح دمك ، ذلك التكسر الذي لم يكسر إرادتك وعزيمتك على مقاومة المرض المتسلل إلى دمك ، الذي حاول الأعداء سفكه ، أو الوصول إليه أكثر من 13 مرة ، لكنه كان عصياً عليهم طيلة نصف قرن ، إلى أن وصلوا إليك بسمهم الملعون , على يد الحاقد المأفون والمقبور أرئيل شارون , الذي لم يستطع مواجهتك في بيروت , ولا في أي مكان في الكون , فكانت المواجهة على أرض فلسطين وفي عشر سنين , وأنت اليوم في أرضها الشهيد , وهو الميت دون كفن أو تأبين . كم كنت عظيماً وجباراً يا سيدي ، وأنت تقود أطول ثورة في التاريخ ، منذ مشاركتك للشهيد عبد القادر الحسيني ، ثم مقاتلتك للعدوان الثلاثي على مصر ، ثم دخولك إلى الضفة الغربية بعد هزيمة 1967 ، تنشئ الخلايا ، وتزرع الأرض بالمقاتلين ، كنت دوماً في مقدمة الصفوف من غزة إلى بيروت ، لا تخشى الموت ، فالموت كما كنت تقول لا يأتي إلا مرة واحدة ، ونحن لا نموت .. نحن مشاريع شهادة ، والشهيد حي لا يموت. أيها " الختيار " .. أناديك كما كنت تحب أن نسميك ، نفتقدك اليوم في الذكرى العاشرة لرحيلك ، وفي الذاكرة أشياء كثيرة لا تتسع لها كل أوراق الكتابة ، وكل صفحات الجرائد والمجلات ، ويكفي أن أذكر هنا ، أنك كنت تأمر بصرف مساعدة زواج لكل مقاتل يريد أن يتزوج ، تشجع الشباب على الزواج ، وتقول لنا : إنني سأحتاج لأولادكم ليكملوا المشوار بعد أن تكبروا وتشيخوا ، كنت تعلم يا سيدي أن المشوار طويل ، وأن الصراع طويل ، لكنك كنت تقول لنا , إنني أرى النور في نهاية النفق. وبعد أن عدنا إلى أرض الوطن ، صدقنا رؤيتك ونحن نرى النور من مآذن المسجد الأقصى في القدس الشريف وكنائس بيت لحم ، وفي شوارع غزة ونابلس ، ورام الله ، والخليل ، وجنين ، وفي كل مكان من أرض فلسطين .لأنك يوم خرجت من بيروت ، قلنا لك إلى أين الرحيل ، فقلت لنا " طبعاً إلى أرض فلسطين " وتحقق الحلم والرؤيا . أذكرك يا سيدي في مثل هذه الأيام من شهر نوفمبر عام 1988 ، وأنت تعلن على أرض الجزائر ، في المجلس الوطني الفلسطيني ، إعلان استقلال فلسطين ، يومها رأيت الدموع في عينيك ، وبكينا جميعاً ، وفرحنا جميعاً ، وسهرنا حتى الصباح ، نحتفل بالاستقلال وبانتصار الوعد ، وما هي إلا خمس سنين ، حتى عدت بنا إلى أرض فلسطين ، لتصبح يا سيدي أول رئيس وسط شعبك ، وعلى أرضك ، عائداً ظافراً ، تُقبّل الأرض التي أحببت ، ويومها أيضاً رأيت دموعك تبلل أرض رفح ، وبكينا معك مرة أخرى ، إنها دموع الفرح ، الذي طالما انتظرناه على مدى سنوات عمرنا , لكننا اليوم نبكي غيابك ونبكي فراقك . يوم رحلت بكتك فلسطين بأكملها قبل عشر سنين , ولا زالت تبكيك ، وكما شغلت العالم حياً ، فقد شغلته راحلاً ، فلم تكن جنازتك فلسطينية فقط ، بل عربية وعالمية ، فوق أرض "ديجول" في باريس كان الوداع الذي يليق بالزعماء أمثال غاندي وديغول ومانديلا , من المحررين لشعوبهم ، وكذلك أرض الكنانة التي أحببت وأحبتك تودعك وداع زعيم الأمة ، فكان هناك رؤساء وملوك الدول العربية يسيرون خلفك ، لأنك كنت القائد الحقيقي لهم ، وكان من حقك أن يسيروا خلفك حياً ، وقد ساروا خلفك شهيداً ورمزاً خالدا. في ذكراك العاشرة يا سيدي .. هناك من يحاول أن يمنع شعبك في قطاع غزة من إحياء ذكراك , بتفجير منصة الاحتفال قبل أيام على ذكرى الرحيل , فهم يخشون خروج أكثر من مليون من أحبائك وأبنائك يحيون ذكراك , وفاء وحبا وتقديرا لقائدهم ورمز قضيتهم , ومفجر ثورتهم وحركتهم الأم " فتح " صاحبة الطلقة الأولى , ولكننا سنبقى نذكر (أبو عمار) الرقم الصعب ، وأول وآخر من وقف في وجه المدفع ، وظل يصرخ في " حضارة الصم " أن آن لشعبي أن يعيش , ولدولة فلسطين أن تقوم , ولكن لا حياة لمن تنادي ، فهم الأموات وأنت حي في الذاكرة والقلب والوجدان ، وسنظل نصرخ : وما قتلوك وما غيبوك ولكن شبه لهم ، وسنبقى على العهد والوعد كما كنت تردد دائماً " العهد هو العهد ، والقسم هو القسم " , وإنا على عهدك يا سيدي سائرون .. فها هي دولة فلسطين على الأبواب , بعد أن أصبحت عضوا في الأمم المتحدة , وها هو خليفتك ورفيق دربك الرئيس محمود عباس ( أبو مازن ) يحفظ الوصية , ويحفظ الرسالة ويؤدي الأمانة , التي ائتمنته عليها , بألا يفرط في تراب القدس وفلسطين , يحافظ على الثوابت الوطنية , ويسعى رغم الأذى من بعضنا , إلى إنهاء الانقسام والحفاظ على الوحدة الوطنية , وبزهد في المنصب والكرسي , ويرسم مستقبل القضية.