الدواتيّ
رامي سمارة وإيهاب الريماوي
يعرف الطرق وشيوخها، ويلمّ بالأقلام الستة: الثلث، والنسخ، والمحقق، والريحاني، والرقاع، والتوقيع، ويتقن أغلبها، ويلهمه كم التقدير والاحترام في قصة من التاريخ، تروي كيف كان السلطان العثماني بايزيد الثاني ابن محمد الفاتح يمسك الدواة "المحبرة" لـحمد الله الأماسي أشهر الخطاطين في حينه، حين كان يكتب "الفرمانات" في الركن الذي خصصه له السلطان داخل قصره.
اليوم، هو خبير بالصفات العامة لكل خط من حيث الليونة واليبوسة والسمك، وبأصول وقواعد الأقلام (الأنواع) التي تبدأ من رسم الحرف وطريقة كتابته، كما أنه خبير بميزات الحروف وأوزانها وكيفية قياسها بالنقطة وسماكة القلم الذي تكتب به، يميزه اتقان بناء الكلمات والأسطر والشكل العام للوحة.
لا شيخ له، تعلّم الخط بنفسه، وتعرف على الأصول والقواعد على مدار 30 عاماً، تدرب خلالها على تصاوير لمخطوطات قديمة وبعض الكراسات القيّمة، فتفوق في بناء السطر وموقع الكلمة من ذلك، والشكل العام للعمل الفني.
إيهاب ثابت في عقد عمره الخامس، حاز 16 جائزة عربية ودولية، آخرها في مسابقة نظمتها وزارة الأوقاف التركية تحت عنوان "المسابقة الدولية الأولى لكتابة المصحف الشريف" وكانت بخط النسخ، وكُرّم مراراً في تركيا وماليزيا والإمارات العربية المتحدة والكويت وغيرها، لكنه لم يكرّم في بلده فلسطين، ويقول إنه لم يُدعَ إلى المشاركة في أي فعالية ثقافية أو فنية.
لم يأخذ نصيبه من الحفاوة في وطنه، وهذا يؤلمه، فأي فنان في بلده لا يلاقي ما لاقاه من تكريم في الخارج يعزّ عليه ذلك، "يجب أن يكون هناك اهتمام بالخطاطين كما في بعض النواحي الفنية الأخرى مثل المسرح والدبكة والفنون التشكيلية". وبالنسبه له فإن حقه يرد له في اليوم الذي تقوم فيه فعاليات خاصة بالخط في فلسطين، من ورش ومعارض ومسابقات ومعاهد، وإذا ما فُعّل الخط في المدارس وفي نواحي الحياة الأخرى.
لثلاث ساعات على الأقل، يعمل إيهاب يومياً في زاوية استحدثها في منزله بقرية جفنا شمال شرق رام الله، بعد أن يعود من عمله في جريدة الأيام كمدير لقسم التصميم، يعمل ليعتاش، فالخط العربي ورغم المسابقات والمعارض الدولية التي تقام احتفاء به، لا يمكن الاعتماد عليه بصورة كاملة كمهنة تعيل، "أحيانا يلجأ الخطاطون لعمل إضافي لتحسين أوضاعهم".
وباعتقاده، يمكن أن يعتاش المرء من الخط إذا ما امتهنه، إلا أنه يتوجب عليه تسويق أعماله في الخارج، "هنا لا توجد لدينا ثقافة الاقتناء، أي أن تقدر قيمة اللوحة وتشتريها لقيمتها الفنية والمادية. العمل الفني ومنه الخط العربي مثل الأرض، سعره يرتفع ولا يهبط. اللوحات التي يراها البعض إن وقعت عينه عليها؛ ليست نتاج ساعات، بعضها يحتاج لأشهر لإنتاجه، الموضوع ليس فقط ورقة وقلما وبعض الانحناءات ترسم أو تكتب في نصف ساعة".
"الخطاط العربي عبقري" هكذا يقول ثابت، ودليله على ذلك أن نتاج الخط يتلفت إليه أناس لا يمتون للعربية بصلة، لا يفهمونها ولا يقرأونها، ولكنهم يتذوقون الآلية التي تكتب فيها، ومزايا كل خط برهان على غنى الخط العربي وإمكانياته وإمكانيات من يكتبونه، الذين وصلوا إلى هذه المرحلة من الأشكال التجريدية للحروف العربية ومنحوها الجمال الذي يتذوقه الأجانب.
"أن تستخدم عناصر بسيطة مثل الأشكال الهندسية المعروفة كالمثلث والمربع والدائرة التي تكتب بها الأحرف للاتينية؛ أسهل من معالجة مساحات وخطوط وانحنائات تجريدية فهي بحاجة إلى قدرات بصيرة كبيرة جداً".
يبدي إيهاب ثابت أسفه لأن لوحات الخط العربي غالباً تظلم في موطنها، بينما في درو العرض العالمية تزاحم تلك اللوحات أعمالا فنية وتشكيلية عريقة، "الحرف العربي أقحم نفسه حتى في لوحات الفن التشكيلي المعاصر، لو لم يكن فيه عنصر جذاب يرفع من قيمة العمل لما لجأ له فنانون أجانب وأشركوه في أعمالهم".
ورغم أنه لا يستخدم سوى الحاسوب في وظيفته بـ"الأيام" كمصمم؛ إلا أنه لا يرى فيه غولاً قد يلتهم يوماً الخط والخطاطين، "الكمبيوتر لا يشكل خطراً على الخط العربي، لأنه غير قادر على إنشاء لوحة خطية فيها من الجمال والروحانية التي يتذوقه أصحاب الاختصاص والنقاد. لا تنتج لوحة الخط العربي إلا باليد، كيف للكمبيوتر أن يترك أثراً لسحبات القلم وتدرج الحبر؟".
لا يخشى ثابت الحاسوب ولكنه يمتعض منه، لأنه أخذ دوراً له ولزملائه، كما يظن، في منهاج الخط المدرسي، "أغلب كراسات الخط التي توضع بين أيادي الطلبة مأخوذة من الكمبيوتر ولا تراعي الأصول والقواعد التي يمكن أن يتقنها المختصون.
"في فلسطين كفاءات رغم قلتهم، إلا أن أسماءهم تلمع عربياً ودولياً حيث كرموا وحصلوا على جوائز، فلماذا لا يطلب منهم وضع كراسات تتبناها وزارة التربية والتعليم؟ ولماذا لا تقوم الأخيرة بالعمل على وضع منهاج علمي يخضع بموجبه معلمو الخطوط لدورات حتى يميزوا بين خط الرقعة وخط النسخ؟ يسأل ثابت.
عند شيخ علم الاجتماع ومؤسسه ابن خلدون، فإن الخط صناعة من الصنائع، لجأ إليها الإنسان لحاجته لها، وقد استخدمتها كل شعوب الأرض عندما استقرت وعرفت العمران، ويرى أنها صناعة شريفة وراقية ومظهر من مظاهر العمران تنمو وتزدهر به الحضارات ومعه تتقلص وتضمحل.