إرث خلف الزجاج
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
عميد شحادة
قد تُغمض عينيك بهدوء، لتأخذ نفسا جبلياً عميقاً، تجلي به صدرك، عند بلوغك قمة جبل المنطار في مدخل مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية، حيثُ منتجع المنطار السياحي ذو الطابع الأثري القديم يتشمس فوق أربعة عشر دونماً من المساحات الوعرية الخضراء، تسترخي باديء الأمر لخلو المكان من البلاستيك أو أي مواد حديثة، الكراسي حجرية، والمظلات شجرية واللحن خرير ماء، فيما البناء من أحجار "بيوت العقود" القديمة، ولا تعلم أن النفس العميق قد يكلفك الكثير من الشحنات العصبية وربما الدموع.
يُطل عليك صاحب المكان بسام بدران (65 عاما)، رجل سياسة واقتصاد، يشدك من يدك إلى قصر في زاوية المنتجع، تفهم بعد دخوله أنه "متحف".
أكبر متحف لتراث الشعب الفلسطيني بناه بدران حديثا بحجارة قديمة جمعها من مكبّات مختلفة، إذ يرميها الناس عندما يشيدون بيوتا جديدة، في وقت تشتري فيه إسرائيل آلاف الشحنات من حجارة بيوت الفلسطينيين لتبني لها ماضٍ في مدن حديثة، مثل "تل أبيب".
يصحب بسام بدران زوّاره في أرجاء المتحف، يتنقل بهم بين الزوايا العابقة برائحة غابر الزمان، يروي ويسرد ويستحضر التاريخ وقصصه، وفي ركن يتوسط المتحف؛ استوقف الجمع جرس معدني نُقش عليه باللغة الإنجليزية "تايتنك 1912"، فما كان من بدران إلا أن بادر بالقول: "كان على متن سفينة تايتنك فلسطينيون، وغرقوا مع من غرق، أهلهم في البلاد علموا أن أولادهم ماتوا في السفينة، فصنعوا لهم خمسة أجراس كتبوا عليها (تايتنك 1912)، وزعوها على خمس مدارس في حينه، تُقرع ذكرى لأبنائهم الذين ماتوا في تلك الحادثة، وهذا الجرس واحد من الخمسة المفقودة".
تكاد عيناك تخترق الزجاج المحيط بالجرس وأنت تتساءل مذهولاً: "كيف وصل الفلسطينيون للسفينة؟".
يرد بدران "نسينا أن فلسطين صدرت قبل قرن أكثر من عشرة ملايين صندوق برتقال إلى الغرب، برتقال يافا طبعا، الفلسطينيون جابوا بحار العالم في تجارتهم". لكن الغرب نسي طعم البرتقال وصدق أنها أرض بلا شعب.
لا وجود لدليل يؤكد رواية صاحب المتحف، لكن لا شيء ينفيها، فموقع العربية نت نشر في الذكرى المائة لحادثة تايتنك سلسلة تقارير تحت عنوان "عرب تايتنك، المنسيون في الأعماق"، وذكر أن ثمانين لبنانيا ومصري واحد كانوا عربا في السفينة، وأن إمكانية الحصول على معلومات دقيقة عن أسماء العرب الذين قضوا على متنها وجنسياتهم بات مستحيلا الآن، فالمنطقة الجغرافية لبلاد الشام كان اسمها في ذلك التاريخ سوريا.
يتنقل بدران بين مقتنيات المتحف التي لا يمكن إيجاز قصصها بيوم أو اثنين ولا حتى بأكثر من ذلك، يتوقف عند خارطة فلسطين قبل اغتيالها، ويحكي لك عن الزمن الغابر الذي كان القطار فيه ينطلق من تركيا إلى سوريا فلبنان، وصولاً إلى فلسطين ومن ثم مصر.
الورق الذي رسمت عليه الخارطة ولد قبل إسرائيل بعشر سنوات، "هذه الأرض لنا، للفلسطينيين، تخيل قبل أكثر من مئة عام كنا نلف الشرق الأوسط بالقطارات، اليوم لا نستطيع التنقل بحرية بين مدننا بسبب حواجز إسرائيلية"، يصيح بدران بهذه الكلمات قبل أن يلتفت لينهر طفلا يقفز في زاوية المتحف ليلمس بندقية قديمة معلقة خلف الزجاج.
حزن من نوع خاص يملأ صدرك، تتفجر فيك جرعات مركزة من الحنين للهوية، آلاف القصص مطوية هنا، تهرب خارج المتحف وقد غلت شرايينك، قد تختار كرسيا حجريا على حافة المنتجع، تحتك شارع نابلس - طولكرم بموازاة أحراش من الصنوبر والسرو، ربما ستمسك رأسك بيديك لتوقفه عن اهتزاز الحسرة، فتجفل من يدٍ امتدت فوق كتفك الأسير، تشير إلى صفحة الجبل أمامك، بسام بدران عاد يروي من جديد "هنا قامت معركة المنطار التي قادها السوري فوزي القاوقجي مع مقاومين عرب وفلسطينيين ضد الإنجليز عام 1936، أسقطوا فيها طائرتين".
لكن ذاك الزمان ولّى، فاللحم العربي مزقته الحدود وأشياء أخرى، تلتفت لليمين فيلتفت الراوي معك "وهناك الساحل الفلسطيني من حيفا إلى يافا، عندما يكون الجو صافيا يمكنك رؤية البحر بسهولة".
الجو ليس صافيا، ثم ما الفائدة من رؤية البحر ما دامت اليد قصيرة والعين لا تُبصر، حينها قد تمد يدك الى جفنك لتمسح نقطة تلمع في الشمس، وتختنق وقد جئت لتتنفس.
عميد شحادة
قد تُغمض عينيك بهدوء، لتأخذ نفسا جبلياً عميقاً، تجلي به صدرك، عند بلوغك قمة جبل المنطار في مدخل مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية، حيثُ منتجع المنطار السياحي ذو الطابع الأثري القديم يتشمس فوق أربعة عشر دونماً من المساحات الوعرية الخضراء، تسترخي باديء الأمر لخلو المكان من البلاستيك أو أي مواد حديثة، الكراسي حجرية، والمظلات شجرية واللحن خرير ماء، فيما البناء من أحجار "بيوت العقود" القديمة، ولا تعلم أن النفس العميق قد يكلفك الكثير من الشحنات العصبية وربما الدموع.
يُطل عليك صاحب المكان بسام بدران (65 عاما)، رجل سياسة واقتصاد، يشدك من يدك إلى قصر في زاوية المنتجع، تفهم بعد دخوله أنه "متحف".
أكبر متحف لتراث الشعب الفلسطيني بناه بدران حديثا بحجارة قديمة جمعها من مكبّات مختلفة، إذ يرميها الناس عندما يشيدون بيوتا جديدة، في وقت تشتري فيه إسرائيل آلاف الشحنات من حجارة بيوت الفلسطينيين لتبني لها ماضٍ في مدن حديثة، مثل "تل أبيب".
يصحب بسام بدران زوّاره في أرجاء المتحف، يتنقل بهم بين الزوايا العابقة برائحة غابر الزمان، يروي ويسرد ويستحضر التاريخ وقصصه، وفي ركن يتوسط المتحف؛ استوقف الجمع جرس معدني نُقش عليه باللغة الإنجليزية "تايتنك 1912"، فما كان من بدران إلا أن بادر بالقول: "كان على متن سفينة تايتنك فلسطينيون، وغرقوا مع من غرق، أهلهم في البلاد علموا أن أولادهم ماتوا في السفينة، فصنعوا لهم خمسة أجراس كتبوا عليها (تايتنك 1912)، وزعوها على خمس مدارس في حينه، تُقرع ذكرى لأبنائهم الذين ماتوا في تلك الحادثة، وهذا الجرس واحد من الخمسة المفقودة".
تكاد عيناك تخترق الزجاج المحيط بالجرس وأنت تتساءل مذهولاً: "كيف وصل الفلسطينيون للسفينة؟".
يرد بدران "نسينا أن فلسطين صدرت قبل قرن أكثر من عشرة ملايين صندوق برتقال إلى الغرب، برتقال يافا طبعا، الفلسطينيون جابوا بحار العالم في تجارتهم". لكن الغرب نسي طعم البرتقال وصدق أنها أرض بلا شعب.
لا وجود لدليل يؤكد رواية صاحب المتحف، لكن لا شيء ينفيها، فموقع العربية نت نشر في الذكرى المائة لحادثة تايتنك سلسلة تقارير تحت عنوان "عرب تايتنك، المنسيون في الأعماق"، وذكر أن ثمانين لبنانيا ومصري واحد كانوا عربا في السفينة، وأن إمكانية الحصول على معلومات دقيقة عن أسماء العرب الذين قضوا على متنها وجنسياتهم بات مستحيلا الآن، فالمنطقة الجغرافية لبلاد الشام كان اسمها في ذلك التاريخ سوريا.
يتنقل بدران بين مقتنيات المتحف التي لا يمكن إيجاز قصصها بيوم أو اثنين ولا حتى بأكثر من ذلك، يتوقف عند خارطة فلسطين قبل اغتيالها، ويحكي لك عن الزمن الغابر الذي كان القطار فيه ينطلق من تركيا إلى سوريا فلبنان، وصولاً إلى فلسطين ومن ثم مصر.
الورق الذي رسمت عليه الخارطة ولد قبل إسرائيل بعشر سنوات، "هذه الأرض لنا، للفلسطينيين، تخيل قبل أكثر من مئة عام كنا نلف الشرق الأوسط بالقطارات، اليوم لا نستطيع التنقل بحرية بين مدننا بسبب حواجز إسرائيلية"، يصيح بدران بهذه الكلمات قبل أن يلتفت لينهر طفلا يقفز في زاوية المتحف ليلمس بندقية قديمة معلقة خلف الزجاج.
حزن من نوع خاص يملأ صدرك، تتفجر فيك جرعات مركزة من الحنين للهوية، آلاف القصص مطوية هنا، تهرب خارج المتحف وقد غلت شرايينك، قد تختار كرسيا حجريا على حافة المنتجع، تحتك شارع نابلس - طولكرم بموازاة أحراش من الصنوبر والسرو، ربما ستمسك رأسك بيديك لتوقفه عن اهتزاز الحسرة، فتجفل من يدٍ امتدت فوق كتفك الأسير، تشير إلى صفحة الجبل أمامك، بسام بدران عاد يروي من جديد "هنا قامت معركة المنطار التي قادها السوري فوزي القاوقجي مع مقاومين عرب وفلسطينيين ضد الإنجليز عام 1936، أسقطوا فيها طائرتين".
لكن ذاك الزمان ولّى، فاللحم العربي مزقته الحدود وأشياء أخرى، تلتفت لليمين فيلتفت الراوي معك "وهناك الساحل الفلسطيني من حيفا إلى يافا، عندما يكون الجو صافيا يمكنك رؤية البحر بسهولة".
الجو ليس صافيا، ثم ما الفائدة من رؤية البحر ما دامت اليد قصيرة والعين لا تُبصر، حينها قد تمد يدك الى جفنك لتمسح نقطة تلمع في الشمس، وتختنق وقد جئت لتتنفس.